سوريا ولبنان وصفحة طويت
بزيارة رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري إلى دمشق ولقائه الرئيس بشار الأسد أمس تكون قد طويت صفحة حقبة من اكثر حقب الأمة العربية حرجاً والتباساً، وحساسية. فقد كان التحريض على سوريا في أشده، كما كان الدفع باتجاه الصدام بين البلدين العربيين الشقيقين عنيفاً ولا يعطي فرصة لالتقاط الأنفاس، لكن قدرة الطرفين على تجاوز الأزمة قبل ان تتحول إلى صراع كارثي تستحق التقدير وموقف اللبنانيين في النهاية يستحق الاحترام، لأنهم اكتشفوا أبعاد المؤامرة، وتجاوزوها، واستعادوا ثقتهم في حتمية العلاقات التاريخية والجغرافية بين سوريا ولبنان. واكتشفوا أن المؤامرة هدفها صرف الانتباه عن القضايا المصيرية وتشتيت الأنظار عن القيم الأصيلة والأهداف الواحدة والمصير الواحد لكافة الأشقاء.
لقد كشفت الحقائق عن نفسها شيئاً فشيئاً، وتقطعت إربا تلك المزاعم التي ألصقت بسوريا مؤامرة اغتيال الراحل رفيق الحريري، ومن اللحظات الأولى لوقوع الفاجعة انطلقت الأصوات تتهم سوريا وأقيمت محكمة دولية شهدت هي بدورها عديداً من المنحنيات والالتباسات في تحقيقاتها، دون أن تتمكن من التوصل إلى أي دليل يؤكد اتهام سوريا بالتورط في جريمة الاغتيال المشينة.
لكن التجربة على مرارتها وما تركته من جروح غائرة تركت في نفس الوقت درساً كبيراً في علاقات الدول ينبغي دراسته بتأن وروية، وهو درس عنوانه شديد الوضوح، ويقول بأن السماح بدخول أطراف عربية في أي نزاع عربي عربي هو بداية الخيط الموصل الى أتون المأساة الأعظم.
كانت الخطة شديدة الوضوح، لكن ثورة الغضب والشعور العميق بحجم الفاجعة، لم تتح الفرصة لفضحها في بدايتها، الخطة كانت تستهدف القضاء على كل من سوريا ولبنان معاً، لأن للبلدين مواقف مشهودة في مسيرة المقاومة العنيدة ضد الاحتلال الإسرائيلي، وكان تفكيك عرى تلك المقاومة هو الهدف الأساسي أمام الذين خططوا بإحكام لتنفيذ هذه الجريمة التاريخية، ولا يشك عاقل يدب على الأرض العربية اليوم أن سياسة اغتيال الشخصيات المؤثرة في حياة الشعوب العربية، والمؤمنة بالقضايا القومية والوطنية إيماناً لا يتزعزع، على رأس قائمة أولويات اعداء العرب. والشواهد لا تتوقف عند جريمة اغتيال رفيق الحريري بل سبقتها ولحقتها شواهد لم تكن معالمها واضحة تماماً في وقت التنفيذ، ولكنها تتضح فيما بعد على نحو لا يدع مجالاً للشك، ومراجعة بسيطة للتصريحات التي كانت ترد من عواصم غربية بشأن جريمة اغتيال الحريري تؤكد أن هناك تخطيطا مسبقا لاتهام سوريا، والآن انخرست تلك الألسن الأفعوانية لما أصابها من إحباط بفشل مؤامرة الوقيعة بين سوريا ولبنان. وحين انخرست تلك الألسنة أتاحت وقتاً لكل الأطراف كي تعيد التفكير في مواقفها، ثم حانت لحظة طي الملف المتفجر بقيام سعد الحريري بهذه الزيارة التاريخية لسوريا التي استعادت قناعات الراحل رفيق الحريري بمصيرية العلاقة السورية اللبنانية. رحم الله رفيق الحريري وكل الزعماء الذين دفعوا حياتهم ثمناً لوطنيتهم ورفضهم المستمر مهادنة الاحتلال أو المساومة على قضايا أوطانهم المصيرية.